ترامب، لوبان، وصعود اليمين- صراع القيم الديمقراطية بين أمريكا وأوروبا

شبّه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الحكم القضائي الصادر بحق الزعيمة البارزة في حزب "التجمع الوطني" الفرنسي، مارين لوبان، بالإجراءات القانونية التي واجهها هو شخصيًا في الولايات المتحدة.
أعلن ترامب في تصريح للصحفيين في البيت الأبيض، وذلك خلال مؤتمر صحفي عُقد يوم الثلاثاء الموافق الأول من أبريل/نيسان، أن "هذه قضية ذات أهمية بالغة، قضية ضخمة جدًا، وأنا أحيط بها علمًا تفصيليًا".
وقد تعمّد ترامب توصيف القضية بأنها "كبيرة" و"ضخمة"، في إشارة واضحة إلى أن المحاكمة التي استهدفت لوبان تتجاوز مجرد اتهامات بالفساد والتلاعب بالانتخابات. بل إن هذا الحكم القضائي يشكل جزءًا من استراتيجية أوروبية أوسع نطاقًا تهدف إلى الاستبعاد القسري لكل فكر يميني متطرف يتماشى مع رؤى ترامب وأيديولوجياته.
من هذا المنطلق، اعتبر ترامب قرار القضاء ذا صلة وثيقة به، مؤكدًا معرفته الشاملة بتفاصيل وملابسات القضية. ويرى أن هذا القرار يندرج في إطار المواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن عدد كبير من القضايا الخلافية، بدءًا من الاتهامات الأوروبية لسياسات ترامب بأنها تسعى جاهدة لتقويض القيم الديمقراطية الراسخة، وربما لا تنتهي بالرفض الأوروبي القاطع للسيناريو الأمريكي المطروح لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا.
إن المتابع عن كثب للعلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة ترامب والاتحاد الأوروبي، لا يسعه إلا أن يدرك أن "شرخًا عميقًا" قد وقع بين هاتين القوتين المتحالفتين تاريخيًا. وقد تجلى ذلك بوضوح في تصاعد الأصوات المطالبة في العديد من الدول الأوروبية ببناء كتلة أوروبية مستقلة تمامًا عن النفوذ الأمريكي، مما عزز فرص إنشاء جيش أوروبي موحد وقوي قادر على الاكتفاء الذاتي، وبالتالي التخلي التدريجي عن فكرة حلف شمال الأطلسي.
ويرى بعض المحللين أن ردود الأفعال الأوروبية القوية جاءت بعد أن تجلّت الأهداف الحقيقية للسياسة الترامبية، التي تسعى بشكل واضح إلى إعادة صياغة العلاقة مع الحلف الغربي على أساس تعزيز مفهوم "التبعية" من جانب الدول الأوروبية، بدلًا من بناء شراكة حقيقية وقائمة على الاحترام المتبادل.
ويتخوف الاتحاد الأوروبي من أن طموحات الرئيس ترامب تتجاوز مجرد إضعاف العلاقة التاريخية المتينة في الحلف الغربي بين واشنطن والاتحاد الأوروبي، بل تمتد إلى محاولة نشر قيم تتعارض بشكل صارخ مع القيم الديمقراطية التي تتغنى بها الدول الأوروبية ليلًا ونهارًا.
وإن تلك الحملة الشعواء التي يقودها الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، مستغلًا نفوذه الهائل، تدخل في سياق السياسة الترامبية "الناعمة" الرامية إلى شن هجوم غير مباشر على الحكومات الأوروبية التي تدعو إلى تشكيل جبهة موحدة ورادعة في وجه نزعة ترامب "العبثية".
وكانت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، مارين لوبان، قد استنكرت بشدة الحكم القضائي الصادر بحقها، واصفة إياه بأنه "قرار سياسي بحت" بعد الحكم عليها يوم الاثنين الموافق 31 مارس/آذار الماضي بمنعها من الترشح في أي انتخابات لمدة خمس سنوات بأثر فوري.
وفي تصريح لقناة "تي إف 1" الفرنسية، أكدت لوبان قائلة: "لن أسمح بأن يتم إقصائي بهذه الطريقة المهينة، وسوف أسلك جميع سبل الانتصاف القانونية المتاحة. هناك احتمال ضئيل، ولكنه قائم بالتأكيد"، مشيرة إلى "ممارسات كنا نعتقد أنها حكر على الأنظمة الاستبدادية القمعية".
وبعيدًا عن قرار الإدانة وما يتضمنه من اتهامات خطيرة باختلاس أموال عامة، وما اشتمل عليه من أحكام بالسجن والمنع من ممارسة أي نشاط سياسي لمدة خمس سنوات، فإن اعتراض لوبان على هذا القرار قد يكون صائبًا إلى حد كبير عندما وصفته بأنه "محض سياسي"، خاصة وأن الصعود اللافت لحزبها في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة قد أثار قلقًا بالغًا لدى اليسار الفرنسي الذي سارع إلى "توحيد صفوفه" وتشكيل جبهة موحدة للحيلولة دون وصولها إلى السلطة.
وشهدت القارة الأوروبية في الآونة الأخيرة موجة عارمة من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي حققت نتائج مبهرة في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة. فقد حقق حزب البديل من أجل ألمانيا "AFD" مكاسب كبيرة في ألمانيا، حيث ارتفعت حصته من الأصوات بنسبة ملحوظة بلغت 14%. كما حصل التجمع الوطني بقيادة لوبان على ضعف عدد الأصوات التي حصل عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وفاز حزب إخوة إيطاليا بقيادة جورجا ميلوني بالانتخابات العامة في إيطاليا. وبالمثل، ضاعف حزب الحرية النمساوي عدد مقاعده في البرلمان.
ولا يقتصر الأمر على مجرد الهاجس الأوروبي المتزايد من الصعود الصاروخي لموجة اليمين المتطرف، وما يرتبط بذلك من تهديد خطير للقيم الديمقراطية التي تميز القارة الأوروبية. بل يتعدى ذلك إلى قلق عميق لدى الأطراف الأخرى المختلفة حول ما يحمله هذا اليمين من أفكار تصب بشكل مباشر في مصلحة السياسة "الترامبية".
هذا ما تخوف منه المستشار الألماني السابق أولاف شولتس، الذي اتهم في يناير/كانون الثاني الماضي، قوى معينة في الولايات المتحدة، بالعمل بشكل متعمد على تدمير المؤسسات الديمقراطية الغربية الراسخة. وتأتي تصريحات شولتس هذه ردًا على المحادثة المثيرة للجدل التي جرت بين ماسك ورئيس حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني، أليس فايدل.
وانضم رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر إلى قافلة القادة الأوروبيين الآخرين في التعبير عن غضبهم واستيائهم الشديدين من ماسك بعد "تدخله السافر" في الخطاب السياسي لبلادهم، معتبرًا أن أغنى رجل في العالم "قد تجاوز كل الحدود" بتعليقاته حول كيفية التعامل مع فضيحة عصابات استغلال الأطفال في بريطانيا.
وتأتي هذه التصريحات في خضم اتهامات صريحة وجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ماسك بالتدخل بشكل سافر في الشؤون الانتخابية للدول الأوروبية. وبالمثل، اتهم رئيس الوزراء النرويجي يوناس غار ستور ماسك باستغلال نفوذه الهائل من أجل السيطرة على حرية التعبير في القارة.
وفي سياق الحملة الأوروبية الممنهجة ضد التدخلات الأمريكية المتزايدة، لم يعد مستبعدًا أن تكون الهجمات المتكررة التي تتعرض لها شركة السيارات الكهربائية المملوكة لـ "ماسك" في دول أوروبية مختلفة، تهدف في الأساس إلى ممارسة المزيد من الضغوط عليه لكبح جماح تدخلاته المتزايدة.
فالمؤكد أن هناك رأيًا عامًا أوروبيًا واسع النطاق يتشكل ويرفض بشدة التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للقارة. وما أعلنته الشرطة الإيطالية من أن حريقًا هائلاً اندلع فجر يوم الاثنين الموافق 31 مارس/آذار الماضي، في أحد معارض سيارات "تسلا" بالقرب من العاصمة روما، قد يكون متعمدًا، على الرغم من أن التحقيقات الأولية لم تتوصل بعد إلى تحديد الجهة المسؤولة عن هذا الحادث.
ووفقًا لوسائل إعلام إيطالية، أسفر الحادث عن تدمير كامل لـ 17 سيارة كهربائية من طراز "تسلا" دون وقوع أي إصابات بشرية. فبعد فرنسا وألمانيا، ها هي إيطاليا تواجه بدورها هجمات متعمدة على هذا النوع من السيارات، المملوكة للملياردير ماسك.
وتمثل لوبان في فرنسا هذا الطرح لليمين المتطرف الذي يجد ضالته المنشودة في الأفكار التي تتبناها السياسة الترامبية. ولهذا السبب، ارتفع منسوب التخوف الحقيقي من أن صعود هذه الأحزاب يصب في هذه الخانة بالذات.
فهل يجوز لنا الربط بين الحكم القضائي الصادر بحق لوبان، وبين سلسلة عمليات حرق سيارات "تسلا" على اعتبار أنها رسائل أوروبية "هادئة" تهدف إلى الدفع باتجاه تعديل السياسة الترامبية المثيرة للجدل؟